عزيزي القارئ.قد تستغرب ما سوف أحدّثك بهِ ،لأنك ـ قد تكون كغيرك من البشر ـ تستهين بمشاعر الحيوان ،الذي نعّده أدنى بكثير من مرتيتنا نحن البشر ،ولكنني –خلافاً لما يحمله الآخرون من أفكار –أكنُّ الاحترام لذلك المخلوق الذي يشاركنا في كلِ شيء عدا العقل ،وهو في بعض الأحيان ،يتمتع بمزايا قد تفوق مزايا الإنسان .على كلِ حال ،لن أطيل عليك ،وسأروي لك حكايةٍ حصلت معي منذ زمنٍ مضى ،وماعليكَ إلا أن تتحملني .
كان ماكان ،وماكان يمكن أن يكون في كل وقتٍ وأوان ،كان لي صبيٌ أ ُولعَ منذ صغره بمعاشرة الكلاب ،وقد دفعته الصدفة للعثور على جروةٍ صغيرةٍ،كانت لها حركاتٌ تستميل ُ النفسَ،وبعد جدلٍ مريرٍ مع الأسرة ،وخوف على صحّة الصغير ،قبلتها ضيفةً في منزلي ،وكنت أبدو سعيداً حينما أراهُ يداعبها بفرح ،وراحت الأيام تمضي والجروةُ تكبر ،حتّى أصبحت فيما بعد مصدر قلق ٍبالنسبة لنا ،فقد بدت عليها الشراسة ُ،وأضحت لا تكف عن العواء ليلاً ونهاراً ،مثلما أضحت مصدر إزعاجٍ بالنسبة للجوار والمارة في نفس الوقت ، فكانت –ولصدور أدنى حركةٍ في ا لشارع – تهب ُبشراسةٍ لتملأ الدنيا عواءً،وبالنتيجة أصبحنا نلحظُ بعض الامتعاضِ في وجوه الآخرين ،بل نسمعُ بصراحةٍ بعض الانتقادات لاحتفاظنا بهذه الجروة الجريئة ،وحينما كثر اللغط ُوكثرت الاعتراضات ،قررت التخلصَ منها .
لم يكن الأمرُ سهلاً كما تتوقع ،فأنا من ذوي الرأفةِ بالمخلوقات الكونية ،وعليه فقد استبعدت فكرة الإيذاء ،وكان علي َّالتخلص منها بطريقةٍ تبقي على سلامتها ،وبالمداولة مع الأسرة ،وبعد اعتراض الصبي الذي لم يلقَ قبولاً،قررتُ رميّها بعيداً لعل الله يبعث لها من يتبناها فتعيش ،وفي صبيحة اليوم التالي،حملتها على دراجتي النارية ورميتها في حيِّ ٍبعيدٍ ،لم أكن أتوقع أن تعودَ منه أبداً ،ومضيت راضيا ًعن نفسي لأني لم أرتكب أية هفوةٍ بحقِ تلك المخلوقة ،ولكني حينما أفقت في صباح اليوم التالي ،وجدتها تتعشمقُ على الباب الخارجي للمنزل وهي تقومُ بحركاتٍ توحي بسعادتها لهذه العودة ،فأخذتني عاطفة الإشفاق ِوفتحتُ لها الباب
وهكذا ظلّت المشكلة قائمةً،وكان لابدَ من محاولة أخرى ،فالوضع لايحتمل التأخير ،ولكن كيف ؟..وظلت الأفكارُ تتصارع برأسي ،حتّى تدخلت الصدفة فأنقذتني ،فقد قامت زوجتي وشقيقتي بالذهاب إلى قريةٍ مجاورةٍ للقيام بواجب العزاء لإحدى العوائل ،حيثُ تبعتهما الجروة ،بالرغم من استقلالهما سيارةٍ عابرة ،وتابعت طريقها حتّى أضلها السبيل ،فكان التخلص الحسن ،وهدأت أعصابي لثلاثة أيام تلت ،فوجئتُ بعدها بالمخلوقة ِالذكية أمام باب المنزل تلوح بذنبها والمودة تبدو في عينيها ،فأحسستُ بدافعٍ عاطفي لقبولها ثانيةً ،وبصورة تلقائية ٍوجدتُ نفسي أقدمُ لها الطعام وأنا أردد :
- يلعن أبو الجوع .
كان لي صديقٌ يقطن في منزلٍ متطرف ٍ،واعتقدت أن جروتي هذه تنفعه كحارسةٍ عنيدةٍ على أطراف منزله ،فعرضتُ عليهِ أن يقبلها مني كهديةٍ ،فقبل ذلك بامتنان ،ثم قام بربطها قرب الباب لتعتاد موقعها الجديد .وكنتُ في كلِ مرةٍ أزور فيها صديقي هذا ،أراها تستقبلني بحركاتٍ توحي بالمودة والوفاء .
ومع مرور الزمن حصلً خلافٌ بسيط ،بيني وبين صاحبي –ولسبب تافه –أدى إلى نفور ثم إلى قطيعة ،وركب كلٌ منا رأسه وتمسك بعناده ،واستمر الجفاء لفترةٍ طالت حتى شاءت الظروف أن أمر صدفةً من معبرٍ يقربُ من سور منزله ِوكان يقفُ بالباب غاضاً طرفهُ ،فرأيتُ الكلبة َتهبُ بالعواء قرب صاحبها ثم تقفز نحوي وتلوحُ بذنبها قربي ،وكأنها تحنُ إلى الماضي ،أثرتْ تلك َالحركة بنفسي ونظرتُ إلى صاحبي ،وبفعلٍ لاإرادي قلت :
- أ لا تراها خير ٌمنك ؟
ورد ّصاحبي وهو يقترب باتجاهي:
- إي نعم ..ومنك أيضاً .وطاب اللقاء وضم أحدنا صاحبه، وكما يقولون:راح الشرّ عََ البرّ.وأصرّ صاحبي أن يستضيفني في منزلهِ،وكانت جلسةٌ حلوةٌ على هامش الذكريات ،وأنا الآن أسأل نفسي ،أليسَ من الغرابةِ بمكان ؟،أن تقوم هذه الكلبة المخلصة بإصلاح ذات البين ،بين صديقين ،كان المفروض بهما ألاّ يختلفا أبداً؟..ولكنه الإنسان ،هذا دأبه وهذا ديدنه يؤثر مصلحته ُعلى ما عداها .
أبي ردود وتقيم